كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أنه عام لجميع المكلفين في الأحوال إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه» وعن عيسى ابن مريم عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذاك مكافأة، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك {والله يحب المحسنين} يجوز أن يكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل فيه هؤلاء المذكورون، وأن يكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء. وذلك أن من أنواع الإحسان إيصال النفع إلى الغير وهو المعنى بالإنفاق في السراء والضراء في وجوه الخيرات. ويدخل فيه الإنفاق بالعلم وبالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ومنها دفع الضرر عن الغير إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة الإساءة بإساءة أخرى وهو المعبر عنه بكظم الغيظ، وإما في الآخرة بأن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات الأخروية وهو المقصود بالعفو. فإذن الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. فذكر ثواب المجموع بقوله: {والله يحب المحسنين} فإن محبة الله للعبد أعظم درجات الثواب. قال ابن عباس في رواية عطاء: إن منهالًا التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرًا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت {والذين إذا فعلوا فاحشة} الآية. وقال في رواية الكلبي: إن رجلين أنصاريًا وثقفيًا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فكانا لا يفترقان في احوالهما. فخرج الثقفي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري في أهله وحاجته. فأقبل ذات يوم فأبصر امراة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها. ذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحى فأدبر راجعًا فقال: سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك. قال: وندم على صنيعه فخرج يسيح ي الجبال ويتوب الى الله من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدًا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي. قد خنت أخي فقال له: يا فلان قم فانطلق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله أن يجعل لك فرجًا وتوبة. فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة، وكان ذات يوم عند صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم {والذين إذا فعلوا فاحشة} إلى قوله: {ونعم أجر العاملين} فقال عمر: يا رسول الله أخاص هذا لهذا أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة في التوبة.
وعن ابن مسعود أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أبنوا إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أذنك اجدع أنفك افعل كذا. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم، وبيّن أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار. والفاحشة نعت محذوف أي فعلوا فعلة فاحشة متزايدة القبح {أو ظلموا أنفسهم} أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به. وقيل: الفاحشة هي الزنا لقوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا أنه كان فاحشة} [الإسراء: 32] وظلم النفس ما دونه من القبلة واللسمة. وهذا القول أنسب بسبب النزول الذي رويناه. وقيل: الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا بالاستغفار {واستغفر لذنبك} [محمد: 19] وما كان استغفاره إلا عن الصغائر بل ترك الأولى {ذكروا الله} أي وعيده أو عقابه وأنه سائلهم أو نهيه، أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، أو ذكروا العرض الأكبر على الله. وعلى جميع التقادير فلابد من مضاف محذوف. ويكون الذكر بمعنى ضد النسيان وإليه ذهب الضحاك ومقاتل والواقدي. ونظيره {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201] وقيل: المراد ذكروا الله بالثناء والتعظيم والإجلال، فإن من آداب المسألة والدعاء تقديم التعظيم والثناء {فاستغفروا لذنوبهم} يقال: استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى. والمراد بالاستغفار الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل. فأما الاستغفار بمجرد اللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب وإنما يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار كونه منقطعًا إلى الله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} لأن كمال قدرته وغناه كما أنه يقتضي إيقاع العبد في العقاب، فكمال رحمته وعفوه يقتضي إزالة ذلك العقاب عنه، لكن صدور الرحمة عنه بالذات «سبقت رحمتي غضبي» فجانب العفو والمغفرة أرجح ولاسيما إذا اقترن الذنب بالتوبة والاعتذار والتنصل بأقصى ما يمكن للعبد. وفي كتاب مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» وعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله يا ابن آدم أنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرضين خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة».
وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له» ثم قرأ {والذين إذا فعلوا فاحشة} إلى قوله: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} وهذه الجملة معترضة والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم {ولم يصروا} لم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. والتركيب يدل على الشدة، ومنه صررت الصرة شددتها، وصر الفرس أذنيه ضمهما إلى رأسه. وأصر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» وروي «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» {وهم يعلمون} حال من فاعل يصروا، وحرف النفي منصب عليها معًا كما لو قلت: ما جاءني زيد وهو راكب. وأردت نفي المجيء والركوب معًا. وذلك أن المقام مقام مدح لهم بعدم الإصرار. والمعنى ليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يعذر الجاهل ولا يعذر العالم، ويحتمل أن يراد بالعلم العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز عن الفواحش فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث» وعلى هذا يجوز أن يراد نفي الإصرار في حالة العلم لا نفيه مطلقًا كما لو أردت في المثال المذكور نفي المجيء في حال الركوب لا نفي المجيء على الإطلاق {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم} وهي إشارة إلى إزالة العقاب {وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} وهذه إشارة إلى إيصال لاثواب {ونعم أجر العاملين} ذلك الجزاء. قال القاضي: وهذا يبطل قول من قال: إن الثواب تفضل من الله وليس جزاء على عملهم، وذلك أنه سمى الجزاء أجرًا والأجر واجب مستحق فكذلك الجزاء. ولقائل أن يقول: أنه على وجه التشبيه لا التحقيق. واستدلوا أيضا بالآية على أن أهل الجنة هم المتقون والتائبون دون المصرين لقوله: {ولم يصروا} والجواب ما مر أن كون الجنة معدة للمتقين الموصوفين لا يوجب أن لا يدخلها غيرهم بفضل الله وبرحمته. ثم ذكر ما يحمل المكلفين على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية فقال: {قد خلت من قبلكم سنن} وأصل الخلو الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، وكل ما انقرض ومضى فقد انفرد عن الوجود، والسنة الطريقة المستقيمة. والمثال المتبع وهي فعلة بمعنى مفعولة من سن الماء يسنه إذا والى صبه فكأنه أجراه على نهج واحد، أو من سننت النصل أحددته، أو من سن الإبل إذا حسن الرعي. والمراد قد مضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة يعني سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله: {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} فإنهم خالفوا رسلهم للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي عليهم اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة هذا قول أكثر المفسرين.
قال مجاهد: المراد سنن الله في الكافرين والمؤمنين فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن بقي له الثناء الجميل والثواب الجزيل والكافر له اللعن والعقاب. ثم قال: {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، أو لأن الغرض زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يحصل بتأمل أحوال أمثالهم وليس المراد من قوله: {فسيروا في الأرض} الأمر بالسير بل المقصود تعرّف أحوالهم. فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلًا. ولا يبعد أن يقال: ندب إلى السير لأن لمشاهدة آثار الأقدمين أثرًا أقوى من أثر السماع كما قيل:
إن آثارنا تدل علينا ** فانظروا بعدنا إلى الآثار

{هذا بيان} المشار إليه بهذا إما أن يكون جميع ما تقدم من الأمر والنهي والوعد والوعيد للمتقين والتائبين والمصرين ويكون قوله: {قد خلت} جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق من الأجر، وإما أن يكون ما حثهم عليه من النظر في سوء عواقب المكذبين ومن الاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. أما البيان والهدى والموعظة فلابد من الفرق بينها لأن العطف يقتضي المغايرة، فقيل: البيان كالجنس وهو إزالة الشبهات وتحته نوعان: أحدهما الكلام الذي يهدي المكلف إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى، وثانيهما الكلام الزاجر عما لا ينبغي في طريق الدين وهو الموعظة. وخص الهدى والموعظة بالمتقين لأنهم هم المنتفعون به. وقيل: البيان عام للناس والهدى والموعظة خاصان بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية وأقول: يشبه أن يكون البيان عامًا لجميع المكلفين وبأي طريق كان من طرق الدلالة. والهدى يراد به الكلام البرهاني والجدلي، والموعظة يراد بها الكلام الإقناعي الخطابي كقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] وخص المتقون بالذكر لأن البيان في حق غيرهم غير مثمر. ثم لما بيّن هذه المقدمات ومهدها ذكر المقصود وهو قوله: {ولا تهنوا}. كأنه قال: إذا بحثتم عن أحوال القرون الخالية علمتم أن صولة الباطل تضحمل، وأن العاقبة والغلبة لأرباب الحق. والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن الجهاد ولا يورثنكم ما أصابكم يوم أحد وهنًا وجبنًا {ولا تحزنوا} على من قتل منكم وجرح {وأنتم الأعلون} وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد أو أنتم الأعلون شأنا لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان وقتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار، أو أنتم الأعلون بالحجة والعاقبة الحميدة كقوله: {والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] وفي هذا تسلية لهم وبشارة. وقوله: {إن كنتم مؤمنين} إما أن يكون قيدًا لقوله: {وأنتم الأعلون} أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة، وإما أن يكون قيدًا لقوله: {ولا تهنوا} أي إن صح إيمانكم بالله وبحقية هذا الدين فلا تضعفوا لثقتكم بأن الله سيتم هذا الأمر. قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر».
فأنزل الله تعالى هذه الآية. وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله: {وأنتم الأعلون} وقال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد كئيبًا حزينًا جعلت المرأة تجيء بزوجها وأبيها وابنها مقتولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهكذا تفعل برسولك؟ فنزلت {إن يمسسكم قرح} بفتح القاف وبضمها وهما لغتان كالضعف والضعف، والجهد والجهد. وقيل بالفتح لغة تهامة والحجاز. وقيل بالفتح مصدر، وبالضم اسم. وقال الفراء: أنه بالفتح الجراحة بعينها، وبالضم ألم الجراحة. وقال ابن مقسم: هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع قرحة. ومعنى الآية إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبل ذلك في قوم بدر. ثم لم يثبطهم ذلك عن معاودة القتال فأنتم أولى بأن لا تفرقوا ولا تجبنوا ونظيره {فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [النساء: 104] وقيل: القرحان في يوم أحد وذلك أنه قتل يومئذٍ خلق من الكفار نيف وعشرون رجلًا، وقتل صاحب لوائهم، وكثرت الجراحات فيهم، وعقرت عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار كما يجيء من قوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم} [آل عمران: 152] والمماثلة في عدد القتلى والجرحى غير لازمة وإنما تكفي المثلية في نفس القتل والجراحة {وتلك الأيام} موصوفًا وصفته مبتدأ خبره {نداولها} وتلك مبتدأ أو الأيام خبره كقولك: هي الأيام تبلي كل جديد فإن الضمير لا يوصف ويكون {تلك} إشارة إلى الوقائع والأحوال العجيبة التي يعرفها أهل التجارب من أبناء الزمان. والمراد بالأيام ما في تلك الأوقات من الظفر والغلبة والحالات الغريبة. وقوله: {نداولها} كالتفسير لما تقدمه. والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر. ويقال: تداولته الأيدي أي تناقلته. والدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين لا تدوم مسارّها ومغامها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوّه، ويوم آخر بالعكس فلا يبقي شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها ونظيره قولهم: الحرب السجال.
شبهت بالدلاء لكونها تارة مملوءة وأخرى فارغة، وليس المراد من هذه المداولة أنه تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين، فإن نصرة الله منصب شريف لا يناله الكافرون. بل المراد أنه تارة يشدد المحنة على الكافرين وأخرى على المؤمنين وذلك أنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميعها لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب. فالحكمة في المداولة أن تكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام، فيعظم ثوابه عند الله وإلى هذا يشير قوله سبحانه: {وليعلم الله الذين آمنوا} وحذف المعطوف عليه ليذهب الوهم كل مذهب ويقرر الفوائد. والتقدير نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم. وفي إيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ولكن في ضمنها مصالح جمة لو عرفوها انقلبت مساءتهم مسرة منها أن يعلم الله. وقد احتج هشام بن الحكم يظاهر هذه الآية ونحوها كقوله: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا} [آل عمران: 142] على أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند وقوعها وقد سبق الأجوبة عنها في تفسير قوله تعالى: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه} [البقرة: 124] وتأويل الآية أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا علم فلان أو قدرته والمراد معلومه أو مقدوره. فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم لأن التغير في علم الله تعالى محال. فمعنى الآية ليظهر معلومنا وهو المخلص من المنافق والمؤمن من الكفار. وقيل: معناه ليحكم بالامتياز، فوضع العلم مقام الحكم. وقيل: ليعلمهم علمًا يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودًا منهم الثبات، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد. وقيل: ليعلم أولياء الله فأضاف إلى نفسه تفخيمًا لهم.
وعلى الأقوال العلم بمعنى العرفان ولهذا تعدى إلى مفعول واحد. وقيل: أنه بمعنى فعل القلب الذي يتعدى الى مفعولين والتقدير: وليعلمهم مميزين عن غيرهم. ويحتمل على جميع التقادير أن يضمر متعلق وليعلم بعده ومعناه: وليتميز الثابتون على الإيمان من المضطربين فعلنا ما فعلنا. ومن حكم المداولة قوله: {ويتخذ منكم شهداء} من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143] فإن كونهم كذلك منصب شريف لا يناله إلا هذه الأمة، ولن يكونوا من الأمة إلا بالصبر على ما ابتلوا به من الشدائد. أو المراد ليكرم ناسًا منكم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء. والمقتول من المسلمين بسيف الكفار يسمى شهيدًا. قال النضر بن شميل: لأنهم أحياء حضروا دار السلام كما ماتوا بخلاف غيرهم. وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة {والله لا يحب الظالمين} أي المشركين {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] قال ابن عباس: وقيل: لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان الصابرين على البلوى، وهو اعتراض بين بعض المعللات وبعض. وفيه أن دولة الكافرين على المؤمنين للفوائد المذكورة لا لأنه يحبهم. ومن الحكم قوله: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} والمحص في اللغة التنقية والمحق النقصان. وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء. وقال الزجاج: معنى الآية أنه أن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين أي تطهيرهم وتصفيتهم، وإن كان بالعكس فالمراد محو آثار الكفار. وهذه مقابلة لطيفة لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم لا بالكلية، فإن ذلك غير واقع بل بتدريج ومهل لايقطع طرفًا ننقصها من أطرافها. اهـ.